ماهو معرض الكتاب؟ ومن أين بدأ؟ وماهي أهم أهدافة: رحلة حول التاريخ

تاريخ وأهداف وتحولات معرض الكتاب عربيًا وعالميًا. هل لا يزال يحقق دوره التنويري؟ أم أصبح طقسًا استهلاكيًا يتخفى خلف رمزية الثقافة؟ سلسلة مقالات نقدية تفكك الظاهرة وتعيد بناء معناها.

ماهو معرض الكتاب؟ ومن أين بدأ؟ وماهي أهم أهدافة: رحلة حول التاريخ
معرض الكتاب


في خضم الطقوس الثقافية المتكررة، يبرز "معرض الكتاب" كواحد من أعرق وأشدّ الرموز ارتباطًا بفكرة الوعي الجمعي، لكنه أيضًا من أكثرها عرضة للابتذال إذا ما تُرك دون مساءلة معرفية. هذه السلسلة من المقالات لا تُعنى بالوصف السطحي للمعارض ولا بمديحها الاحتفالي، بل تهدف إلى تحليل ظاهرة معرض الكتاب بوصفه مؤشرًا حضاريًا مركبًا، تتداخل فيه الدوافع التنويرية بالمصالح التجارية، وتتنازع فيه القوى الفكرية مع الخطابات الرسمية، ويتجلّى من خلاله مدى علاقة المجتمع بالمعرفة، لا عبر ما يُعرض فحسب، بل في ما يُقصى أو يُهمّش. من خلال هذا المقال، سنتناول تاريخ المعرض ونشأته، ثم تطوره الوظيفي، فنُحلّل أهدافه، ونُقيّمه من خلال النماذج العربية والعالمية، قبل أن نختم برؤية استراتيجية تُعيد للمشهد معناه. في هذا المقال ، لا نتحدث عن الكتب، بل عن البُنى التي تُنتج علاقتنا بالكتاب، وعن الشروط الفكرية والسياسية التي تُحدد ما إذا كان المعرض محطةً للتحرّر أو واجهة للتزييف.

معرض الكتاب ونشأته التاريخية

من بين المشاهد الثقافية التي تستوقف الإنسان وتحثّه على التأمل في مسيرة الوعي والمعرفة، يبرز معرض الكتاب كواحد من أبرز الظواهر الحضارية التي تجسّد التقاء الإنسان بالمعرفة، وتؤكد أن الكتاب، رغم تقلب العصور، لم يفقد مكانته كأداة للتحوّل والتأثير والبناء. فمعرض الكتاب ليس مجرد فعالية تُقام في قاعات العرض، ولا مناسبة موسمية يتزاحم فيها الناس على شراء الكتب، بل هو في جوهره فضاء حُرّ، تتلاقى فيه الأفكار، وتُستعرض فيه تحوّلات العقل الجمعي للأمم، وتُقاس فيه مستويات الطلب على المعرفة، وتُختبر فيه الرؤى والمفاهيم بين قارئٍ يبحث، وكاتبٍ يبوح، وناشرٍ يُراهن.

تاريخيًا، يُعد معرض فرانكفورت للكتاب في ألمانيا هو أول معرض كتب منظّم عرفه العالم، وقد أُقيم أول مرة عام 1462م، بعد أن انتقل صُنّاع الطباعة من مدينة ماينز إلى فرانكفورت، إثر اختراع يوهان جوتنبرج لآلة الطباعة. شكل هذا الحدث بداية عهد جديد في تداول الكتب، وتحوّلت فرانكفورت إلى مركز دولي للنشر وتبادل الحقوق الفكرية، وهو الدور الذي استمر حتى اليوم.

وفي العالم العربي، جاءت البداية متأخرة نسبيًا، إذ يُعد معرض بيروت للكتاب من أوائل المعارض العربية، وقد انطلق عام 1956م بتنظيم من "النادي الثقافي العربي"، ليمثل آنذاك مساحة نادرة لعرض الكتب العربية وتبادل الرؤى بين المثقفين. أما الانطلاقة الكبرى، فقد تحققت مع معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تأسس عام 1969م، ليكون منذ لحظته الأولى مشروعًا وطنيًا طموحًا هدفه تنمية الوعي القومي العربي، وقد أشرفت على دورته الأولى المفكرة سهير القلماوي، بدعم من وزارة الثقافة المصرية. منذ ذلك الحين، تحوّلت معارض الكتب من أنشطة محدودة إلى مؤسسات ثقافية لها بُعد سياسي واجتماعي، وأصبحت مؤشرات للنهضة أو الانحدار، تُقاس بها حرارة العلاقة بين الإنسان ووعيه، وبين الأمة ومرجعياتها، وبين النص ومآلاته في الذاكرة الجماعية.

بين التحوّل التاريخي وتبدّل الأدوار

حين نتأمل تاريخ معرض الكتاب، لا يكفي أن نراه كحدث ثقافي تراكمي، بل كمرآة عاكسة لتحوّلات المجتمعات وتقلّب علاقتها بالمعرفة والسلطة والهوية. فمنذ نشأته الأولى، لم يكن معرض الكتاب مجرّد مكان لبيع الكتب، بل كان ساحة تفاعلية تكتسب معناها من السياق التاريخي والسياسي والثقافي الذي تُقام فيه. في بداياته الأوروبية، وخصوصًا في معرض فرانكفورت منذ منتصف القرن الخامس عشر، كان المعرض أشبه بسوق موسمية للناشرين، يلتقون فيها لتبادل الكتب والحقوق الأدبية، وعقد الاتفاقيات التجارية. لم يكن يُنظر للكتاب من حيث محتواه الرمزي أو السياسي، بل كان سلعة ثقافية بامتياز. لكن مع تطور مفهوم الدولة القومية، وبروز الطبقة المتعلّمة، بدأت المعارض تأخذ بعدًا ثقافيًا أوسع. تحوّلت من كونها مجرد مكان لترويج الكتب إلى منصات تعبّر عن الاتجاهات الفكرية، وتستضيف المحاضرات والمناظرات، وتُعلن فيها الاتجاهات الأدبية الجديدة.

في العالم العربي: من الاحتفال إلى التفاوض

عندما دخل مفهوم معرض الكتاب إلى العالم العربي، وتحديدًا في بيروت عام 1956، ثم في القاهرة عام 1969، لم يكن الكتاب العربي قد تحرر بعد من الرقابة السياسية أو من وطأة الأنظمة الأيديولوجية. ولهذا فإن المعرض في نسخته العربية الأولى لم يكن فقط احتفالًا بالثقافة، بل كان ساحة صامتة للمفاوضات الثقافية بين الدولة والكاتب، وبين السلطة والوعي. ففي معرض القاهرة مثلًا، لم يكن مجرد حدث ثقافي بل كان منصة لإعادة تشكيل الذائقة العربية، عبر اختيار العناوين، وتوجيه الدعوات، وتحديد المساحات المتاحة للحوار. كان معرض الكتاب مساحة محتملة للحرية، لكنها حرية مشروطة، لا تنفصل عن الإطار الرسمي والرسالة التي ترغب الدولة في تصديرها عن ذاتها.

و مع مطلع القرن الحادي والعشرين، ومع التوسع الرقمي، تغيّرت أدوار معرض الكتاب. لم يعد المصدر الوحيد للكتاب، ولا القناة الحصرية للقاء الكاتب بالقارئ. لكنه مع ذلك حافظ على دوره الرمزي كمكان للقاء الإنساني، ومهرجان للفكر، ومساحة لاستعراض القوة الثقافية. وما يلفت النظر أن معارض الكتب العربية اليوم، رغم ازدهارها شكليًا، إلا أنها تواجه تحديات بنيوية: ضعف القراءة المنهجية، تراجع الوعي النقدي، سيطرة العناوين السطحية، وتحول كثير من المعارض إلى مناسبات تجارية أو واجهات سياسية.

أهداف معرض الكتاب

حين يُطرح السؤال: "ما هدف معرض الكتاب؟"، فإن الإجابة السطحية والمباشرة تبدو بديهية: تشجيع القراءة، دعم النشر، لقاء القارئ بالمؤلف. ولكن خلف هذه العناوين اللامعة، هناك شبكة أعمق من الأهداف، بعضها معلن وبعضها يتشكل في الخفاء، وبعضها يتغير بتغير السياق السياسي والاجتماعي.

الهدف التنويري

لا ريب أن من أبرز أهداف معرض الكتاب هو نشر المعرفة وتيسير الوصول إليها. وهو في هذا يمثل محاولة لرأب الصدع بين الكتاب وبين المجال العام، أي بين ما يُكتب وبين ما يُقرأ فعليًا، وبين المؤلفين والمجتمع. فالمعرض من هذه الزاوية فضاء لتمكين الثقافة، وإعادة تدوير الأفكار في الشأن العام، وتحفيز الوعي النقدي لدى الجمهور. كما يتيح للقراء الفرصة لاكتشاف الجديد من الكتب، والتعرف على التنوع الفكري والأدبي، مما يجعل منه منصة تعليمية غير رسمية تسهم في تعميق الوعي وبناء الذائقة.

الهدف الاقتصادي

في خلفية كل معرض كتاب، تقف صناعة ضخمة اسمها سوق النشر. وبالتالي فإن أحد أهداف المعرض هو تفعيل هذه الصناعة، وضخ الحياة في شرايينها، سواء عبر بيع الكتب، أو الترويج لحقوق الترجمة، أو توقيع عقود النشر. فالمعرض ليس فقط منصّة ثقافية، بل أيضًا آلية لتحريك رأس المال الثقافي وتحويله إلى حركة اقتصادية. وهنا يتقاطع الكتاب مع السوق، ويتحوّل النص إلى سلعة، وتصبح الثقافة نفسها مادة للتسويق، وهو ما يفتح سؤالاً خطيرًا: هل تحوّل المعرض إلى مشروع رأسمالي بوجه ثقافي؟

 الهدف السياسي

في كثير من الدول، لا يُترك معرض الكتاب دون تدخل رسمي. فهناك من يعتبره أداة ناعمة لصياغة الرؤية الثقافية الوطنية، ومن يراه منصة استراتيجية لإظهار الانفتاح أو السيطرة على مسارات الخطاب. وهنا، يُستخدم المعرض لترويج نوع معين من الكتب، وتهميش أخرى، وتحديد سقف للحرية باسم المسؤولية، والانتقاء باسم الجودة. في هذا السياق، يصبح معرض الكتاب ميدانًا للصراع بين الحرية والرقابة، بين التنوع والتوحيد، بين الاستقلال الفكري والتوجيه الرسمي.

الهدف الرمزي

معارض الكتب الكبرى، خصوصًا تلك التي تُقام برعاية دولية، أصبحت وسائل لإبراز صورة الدولة كمحتضنة للثقافة والابتكار والمعرفة. وهي بذلك تسعى لتأكيد شرعية ثقافية أمام الداخل والخارج، وترويج هوية معينة، وإرسال رسائل ضمنية حول الانفتاح، الحداثة، أو الاستقرار.

معرض الكتاب بين الانحراف عن الهدف والحنين إلى الوظيفة

عند النظر إلى المشهد الحالي لمعارض الكتب، تتبدّى أمامنا مفارقة محيرة: كثافة الحضور، وتنوع الفعاليات، واتساع المشاركات الدولية، مقابل تراجع القراءة النوعية، وتكرار العناوين، وشيوع السطحية. فما الذي يحدث حقًا؟ وهل لا تزال هذه المعارض تفي بوعدها التنويري أم أنها تحوّلت إلى طقوس ثقافية بلا روح؟

النموذج العربي: بين الاحتفال الثقافي والانفصال عن القارئ الحقيقي

خذ على سبيل المثال معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهو أحد أعرق المعارض العربية وأكثرها كثافة جماهيرية. ورغم ما يقدمه من فعاليات فكرية ومشاركات واسعة، إلا أنه يُواجه انتقادات متكررة تتعلق بتضخم الجانب البروتوكولي، وتضاؤل فرص حضور الكتب الجادة، وهيمنة العناوين الاستهلاكية ذات الطابع الديني أو الرومانسي أو التحفيزي. أما معرض الرياض الدولي للكتاب، فقد شهد تطورًا ملحوظًا من حيث التنظيم والانفتاح على دور النشر العالمية، إلا أن التحدي ما زال قائمًا في موازنة العلاقة بين الرقابة الثقافية ومطلب التعدد الفكري، وبين الطموح الثقافي والميل نحو الترفيه الإعلامي. في المقابل، نلحظ في معرض الشارقة الدولي للكتاب تركيزًا أكبر على النشر الجاد، وتنوعًا نسبيًا في الحضور الفكري، لكنه رغم ذلك يصطدم أحيانًا بالفجوة بين الكمّ والنوع، بين عدد الزوار ومستوى التفاعل الفكري معهم.

النموذج الغربي: السوق بوصفه حاكمًا ومُنتجًا

إذا نظرنا إلى معرض فرانكفورت للكتاب في ألمانيا أو معرض لندن الدولي للكتاب، فسنجد نموذجًا مغايرًا: فهذه المعارض تُدار بمنطق الصناعة الثقافية، حيث تُمنح الأولوية للتفاوض حول حقوق الترجمة، وتسويق العناوين، وتوقيع العقود، وتحديد الاتجاهات العالمية للقراءة. ومع أن هذه المعارض لا تخلو من المحاضرات والحوارات، إلا أنها تعمل وفق مبدأ أن المعرفة جزء من اقتصاد السوق. وهذا الطابع التجاري الصريح لا يُعد عيبًا بالضرورة، لكنه يُوضح كيف أن المعرض تحوّل إلى آلية ضمن شبكة الاقتصاد الثقافي العالمي.

أين الخلل إذًا؟

الخلل لا يكمن في شكل المعرض أو حجمه أو عدد روّاده، بل في تحول المعنى: فحين يفقد المعرض صلته بالقارئ الجاد، ويتحوّل إلى استعراض بصري أو مناسبة بروتوكولية، تنفصل الوظيفة عن الهدف. كما أن هيمنة كتب التحفيز السريع والروايات المكرورة تُضعف دور المعرض كحاضنة للفكر العميق والنقاش الحضاري الجاد.

شروط تجديد معرض الكتاب

إذا كنا قد مررنا عبر الأجزاء السابقة من خلال التعريف والنشأة، إلى التحوّلات والأهداف، ثم إلى النماذج والتقييم، فإن هذا الجزء الأخير يُمثل محاولة لرسم خريطة طريق تُعيد لمعرض الكتاب بريقه ووظيفته الأصيلة، بعيدًا عن الاكتفاء بالصخب الظاهري أو المكاسب التجارية الآنية.

أولًا: إعادة تعريف الوظيفة الثقافية للمعرض

ينبغي أن يُعاد بناء معرض الكتاب لا بوصفه مساحة لبيع الكتب فقط، بل كـ مؤسسة ثقافية متعددة الوظائف، تحرّك الوعي، وتخلق الحوار، وتفتح المجال للتفكير النقدي والتعدد المعرفي. المعرض يجب أن يُصبح "ملتقى أفكار"، لا مجرد "موسم تسوّق".

ثانيًا: تحصين المعرض من التبسيط والاستهلاك

من الأخطاء المتكررة هيمنة العناوين الرديئة والمكرورة التي تستجيب لأدنى أذواق السوق. لذلك لا بد من منظومة تقييم حقيقية للعناوين المشاركة، تشجع العمق، وتستبعد الاستسهال، دون أن تتحوّل إلى رقابة مركزية خانقة.

ثالثًا: إشراك القارئ لا استعراضه

ينبغي أن يُبنى المعرض على مبدأ التفاعل لا التلقين، وأن يُفسح المجال لحوارات مفتوحة بين القرّاء والمؤلفين، لا أن يُكتفى بجلسات توقيع مغلقة أو منابر أحادية الاتجاه. المعرض الفعال هو الذي يُشرك جمهوره في التفكير، لا الذي يستهلك وقتهم في العروض السطحية.

رابعًا: تنويع الشراكات

لم يعد ممكنًا أن تنفرد جهة حكومية أو مؤسسة رسمية وحدها بتنظيم المعرض. بل يجب أن يكون المعرض تحالفًا استراتيجيًا بين وزارات الثقافة والتعليم، ودور النشر، والمؤسسات الإعلامية، والجامعات، ومراكز الفكر. وهذا يضمن تنوعًا في الرؤية، واستقلالًا نسبيًا في الطرح، ومرونة في التجديد.

خامسًا: مواكبة التحوّل الرقمي دون التفريط في الجوهر

لا يمكن تجاهل العالم الرقمي. لكن لا ينبغي أن يُقزَّم المعرض إلى تطبيق أو بث مباشر. بل يجب استخدام الوسائط الرقمية لخلق امتدادات للمعرض بعد انتهائه: أرشيف محاضرات، كتب إلكترونية مرافقة، مساحات تفاعلية بين الدورات.

في الختام

معرض الكتاب هو ميزان حضاري، يُقاس به مدى التفاعل مع المعرفة، وحيوية المجتمع، وجرأة الدولة في احتضان التعدد الفكري. وإذا أردنا لمعرض الكتاب أن يبقى منارة لا مناسبة، فلابد من مراجعة صادقة، لا تجميل إعلامي، وخطة واعية لا قرارات موسمية. إن إنقاذ معرض الكتاب ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة استراتيجية لبناء إنسان عربي واعٍ، حر، وفاعل.